أنطوان أبو زيد
لأكثر من أربعين عاماً خلت، وكنتُ بعدها في السابعة عشرة، أول سنة لي بعد خروجي من الدير، تلقيتُ أول هدية من فتاة صديقة بمناسبة إبلالي من المرض، كتاب شعر لمحمود درويش. ظللت أقرأ في الكتاب طيلة عام 1972 كأنه النيزك الذي سقط على أرض جرداء فنقبها وجعل عاليها واطيها، وأخرج الخصوبة الكامنة منها إلى الوجود. قلت هذا هو الشعر.
وبدأت أقرض الشعر على غراره. وحين تسنى لي أن أهبط إلى المدينة أواخر 1974، وقد صرتُ في كلية التربية، تسنى لي أن أقرأ عصام محفوظ، شعراً لا مسرحاً. ثمّ كرّت المعارف، فأمكنني، بفضل كتابات نقدية لي ألحّت عليّ بفعل دعاوى العدالة والتجديد ومعارضة الاستبداد اللاحق بزملاء قدامى، الكتابة في جريدة «النهار»، في بريد القراء، على ما أظنّ، وسمعتُ أنّ ثمة شعراء ولكني لم أجد الوقت ملائماً للدخول في علاقة. وبعد الحرب الأهلية وإصرار الشعر عليّ، على طريقة الشعراء الصوفيين أمثال سمير نصري، كتبتُ في جريدة «الأنوار»، وما لبثتُ أن غادرتُ هذا السبيل إلى كتابة الشعر المنفلت من الوزن متأثراً ببول شاوول، الذي كان له الفضل في تصحيح بعض القصائد التي كنت آتيه بها، وهو في «الهورس شو»، وأنا بين الجامعة وميدان الزراعة. أنسي الحاج صار لي، في ما بعد، من حيث شخصه المادي، إنساناً ذا اقتدار، وهذا ربما لم يشجعني على لقائه، فأنا ميال _عرفت نفسي متأخراً _ إلى المستضعفين. ومع ذلك، ظلّ نصّ أنسي الحاج الأصيل الأكبر بين نصوص قصيدة النثر. مكانته لا تكمن في أنه هزّ عرش الأوزان ولا أنه أبطل وحده الشعر الحرّ، إنما فضلُه، برأيي، في الصيغ والتراكيب العربية التي تلاعب فيها بالموروث وخربط الذائقة التقليدية، وبشحنات من المشاعر قوية موصولة تكاد تبدو لي مقطوعة عن أبعادها اللاهوتية. كانت شحنات شعر أنسي الحاج، لدى قراءتها، منتصف السبعينات تحدياً لنا، بل لي أنا الخارج من تراث الشعر الفلسطني العربي الصاخب ولكن على إيقاع، ولم أكن قد عرفت تراثاً شعرياً آخر كان يشق سبيله مع شعراء مثل عباس بيضون، ومن مناخ آخر ذاهب في اللغة الى محاكاة اليوميات، لكن بثقل فلسفي وتصاوير وتأثرات من السينما والمسرح والترجمة. أنسي ظلّ هنالك، أي أثره، في البدايات التي رسمت أعياد قصيدة النثر، مع فرسانها الأوائل، شوقي أبي شقرا الذي كان يكوكبنا، نحن الفقراء الشعراء حول كيسه وصفحته الثقافية، ويلقّمنا عن قرب. أما أنسي، فكان يلقّم عن بعد. وحتى لا يُفهم الأمر بحرفيته، كان أثر أنسي عليّ من بُعد، أثر اللوحة التكعيبية في من شاء الاستزادة من خطوطها والاستيحاء منها ومن غيرها، في آن واحد. ولربما ذلك الموقف البورجوازي، بل المتعالي، من العلاقات، الذي وقفه أنسي، أو هذا ما خيّل اليّ، كان بمثابة ردّ المعجب إلى النصوص؛ فكأني به يقول: «إذهبوا إلى نصوصي، ولاقوها، واحتفوا بها، أما أنا، فمحض ظلّ لها!» هناك تلقى «المرأة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، وتلقى عواصف «لن» وبروق «الرأس المقطوع» حتى آخر المطاف. لم أكن تابعاً ولا جندياً تحت راية أحد من الشعراء الكبار مثل أنسي _حماني التعليم من هذا المجد_ وانما كنتُ معجباً بأنسي، وبشوقي وبول شاوول وفؤاد رفقة وسمير نصري وعباس بيضون، الذين احتفيت بهم في حياتهم، كاحتفائي بأدونيس أستاذي في كلية التربية، وخليل حاوي، ويوسف الخال، اللذين لم أعرفهما وعوّضت عن جهلي بهما بالإضاءة على أعمالهما. أما أنسي الحاج، فسوف يبقى موقعه، في قصيدة النثر، محفوظاً ومدروساً وموضع تقدير وتبيين تبياناً للأجيال الشعرية الجديدة التي غطّت الساحة وكادت أن تغطّي على الإنجازات في القصيدة (قصيدة النثر) الصائرة منارات يُستضاء بها، ولا يجوز التعتيم عليها، حرصاً على الشعر وذُراه، ومنها أنسي.
ما كان يُشاع عن أنسي أنه ذو نزعة الى التسيّد على الآخرين لم أكن لأسوّغه أو أدخل في تحليله، لأني لم أشأ مرة أن أكون في عهدة أحد الشعراء الكبار، أو تحت رعايته، لكن تلك الصورة، في شعر أنسي تكاد تكون نقيضاً من ذلك، أو ما استخلصته من شعره، منذ مجلة «شعر» وحتى آخر «خواتمه» المبتهلة في جريدة «الأخبار». إنها صورة البطل السلبي المضحّى به في سبيل الحبّ أو الصرخة أو الانتفاضة ضدّ التقليد والركون والبلادة وضدّ ضدِّ الحبّ. البطل السلبي هو إنسان العصر، المقيم في المدينة وليس قابلاً بشاعتها، والمنخرط في حراك الشعوب وهو الكائن الفرد فيها، والموافق على إيمانات الشعوب والكاره تعصّبها حتى حدود الكفر ولا كفر. هكذا كان أنسي الحاج، صانع أسطورته في شعره، ورافع نبرته حيال اللغة، مع حساب دقيق للجمالية في خط الرجعة. متمرّداً وصبياً حتى في شيخوخته، مع أناقة دهرية. هكذا كان أنسي الحاج.