سقطت معادلة الزواج للإنجاب أو الحفاظ على النسل واستمراره في لبنان، وهذا ما تؤكّده الأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة. ففي منتصف القرن العشرين كانت الخصوبة الكلية للمرأة اللبنانية تقارب الستة أطفال، وفي العام ٢٠٠٤ انخفض الرقم إلى ١،٨ طفل وصولاً الى ١،٦ طفل حالياً، أي أن مستوى الخصوبة هو ما دون مستوى الإحلال أي أن يكون هناك ٢،١ طفل لكل مرأة ليحلا مكانها وزوجها وينجبان بدورهما أطفالاً يحلان مكانهما، لكي لا يتراجع حجم السكان بل يبقى على حاله. وهذا ليس مستغرباً في وقت أصبح فيه قرار تأجيل الإنجاب أو إلغائه من الشروط الأساسية لكثر من المقبلين على الزواج. فما الذي يدفع المتزوجين حديثاً إلى اتخاذ قرار حدّ النسل والاعتماد على وسائل منع الحمل لسنوات عدة قبل إنجاب الطفل الأول، غالباً بعد تخطّي عمر الثلاثين أو حتّى الأربعين؟
لا يحتاج لبنان إلى سياسة للحدّ من النسل كما في بلدان أخرى، فما يُجمع عليه المتزوجون حديثاً أنّ سياسة الإفقار كافية وحدها لتحدّ كلّ أحلام الإنجاب وتكبير الأسرة. فكما يقول نجيب سمراني المتزوج منذ ٤ سنوات ولم يرزق بطفل بعد لـ "الحياة": "يكفي التفكير في قيمة الراتب الذي أجنيه وهو بالكاد يبلغ الحدّ الأدنى للأجور لكي أفكّر في تأجيل الإنجاب إلى وقت لم أحدده وزوجتي بعد. فهي مضطرة للعمل أيضاً بهدف سداد إيجار المنزل وتأمين حاجاته، فكيف الحال بوجود الطفل؟".
والحالة ذاتها تتكرر عند عشرات الأسر في لبنان التي تأسست بعد سنوات من الانتظار لكي يؤمّن الشريكان الحدّ الأدنى للعيش معاً، ولكن بعد ذلك يُطرح السؤال الأكبر والمرتبط بالأولاد والقدرة على تأمين أقساط المدارس والحاجات المختلفة.
أما من "خاطرَ" وأنجب الطفل الأول، فالثاني محذوف من روزنامة الحمل أو مؤجّل إلى مستقبل غير محدد المعالم. ولهذه الحال أسباب عدة يوردها متزوجون تبدأ بالهموم الاقتصادية والضغوط المالية الكثيرة، لترتبط أيضاً بعمل المرأة وصعوبة تنسيقها بين وظيفتها والاهتمام بالبيت والأطفال من دون أن ننسى سبباً رئيساً لا يمكن التغاضي عنه، وهو تأخّر عمر الزواج حيث وصل إلى ٢٩ سنة عند المرأة و٣٣ سنة لدى الرجل. وبالتالي تقل فرص الإنجاب عند النساء بعد هذا العمر تدريجاً خصوصاً إذا كانت هناك رغبة في تباعد فترات الحمل.
ليس عمر الزواج وحده ما تغير في لبنان، بل نمط التفكير كله وطريقة التعامل مع مسألة الإنجاب. فبعد أن كان قرار الحمل والتعجيل به يأتي تحت تأثيرات عائلية وضغوط تمارس على المتزوجين حديثاً للإنجاب، بات الأمر محكوماً بقرار الزوجين فقط. فالعروس الجديدة سلام كرم لا تخشى مثلاً أن تكشف أمام عائلتها وأسرة زوجها أنّ قرار تأجيل الإنجاب اتخذ ولا عودة عنه، علماً أنّ المخطط يمتد لنحو ثلاث أو أربع سنوات من دون أطفال "لأنّ الحياة العصرية تجبرنا على ذلك". فالطفل بات يحتاج إلى أمور كثيرة التي لم يكن يحتاجها من قبل، وكلفة التعليم والمعيشة اختلفت أيضاً. لذا، ترفض سلام الكلام الذي تقوله لها أمها وحماتها، ومفاده بأنّ "الطفل يأتي ورزقته معه". فهذه الأمثلة الشعبية لم تعد صالحة بالنسبة إليها.
ويثير هذا الموضوع جدلاً كبيراً في المجتمع اللبناني وفق المستشارة الأسرية الاختصاصية الاجتماعية عفاف الدويهي، لأنّ هناك حالة من الهلع الاجتماعي والاقتصادي لدى المتزوجين حديثاً، فهم يخشون من تحمّل مسؤولية الطفل بما تشمله من نواحٍ تربوية ومالية. وهذا ما يدفعهم إلى اتخاذ قرار تأجيل الإنجاب الذي يمكن وصفه بالعقلاني والمرتبط بواقع الحال الذي يعيشونه ويخشون أنّ يعيشه أطفالهم أيضاً. إلا أنّها تنبّه إلى جانب آخر للموضوع وهو حصول مشاكل زوجية كثيرة بسبب عدم القدرة على الإنجاب في مرحلة متأخرة، أي حين تلامس المرأة سن الأربعين. فالناحية الصحّية يهملهما متزوجون كثر حديثاً، كما تقول الدويهي، في حين أنّ خيارات الحمل والإنجاب يجب أن تكون واضحة بالنسبة إليهم، لا سيما من ناحية اختيار الطريقة الأفضل لمنع الحمل، وأن تكون المرأة تحت إشراف طبيبها دائماً خلال مرحلة الانقطاع عن الحمل.
لذا ترى الدويهي أنّ تأخير الإنجاب لفترة من الوقت ربما يكون ضرورياً لبعض المتزوجين، لكن لا يجوز المبالغة في فكرة رفض الحمل أو الإجهاض في حال حدوثه، لأنّ المضاعفات السلبية تظهر في مرحلة لاحقة حيث يتعرّض الزواج للخطر في ظلّ عدم وجود الأطفال ومشكلات الإنجاب التي تزيد مع التقدّم في العمر.