بدأت عملية انسحاب المصارف الأجنبية من لبنان تشكّل ظاهرة تُثير التساؤلات حول خلفيّاتها وأهدافها، خصوصاً انها تأتي في توقيت حسّاس بالنسبة الى الاقتصاد الوطني. فهل ما يشهده القطاع المصرفي اليوم يعكس ببساطة وضعاً اقتصادياً يُحتّم هذه الانسحابات؟ أم أنّ الامر يتجاوز الحسابات المالية الى ما هو أخطر، ويرتبط بمستقبل البلد ودوره بشكل عام؟
ترسُم المصارف العالمية خريطة التوسّع الخارجي وفق استراتيجيات مُسبقة تضعها الإدارات العامة. ومن البديهي أنّ واحداً من الأهداف الرئيسية التي تضعها نُصب عينيها في تحديد مسار التوسُّع، تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح، بالاضافة الى أهداف أخرى ترتبط بسمعة المصرف، ومجاراة المنافسة، وعدم التخلّف عن الفرَص المُتاحة.
ومن البديهي أيضاً، أنّ قياس الفرَص يتمّ على أساس موازنة الأرباح المتوقعة مع الأخطار القائمة. ومن هنا، تبدو المصارف العالمية الكبرى وكأنها موصولة، وهي كذلك، بمراكز القرار العالمي القادرة، الى حدّ ما، على استشراف المستقبل بالنسبة الى دول العالم الثالث، ولبنان من ضمنها طبعاً.
ويتمّ التركيز على هذه الفئة من الدوَل على اعتبار انّ القراءات في مستقبل الدول الصناعية، التي تجاوزت مفهوم الدول النامية، يقتصر على استشراف الوضع الاقتصادي، من دون أن يتطرّق الى الوضع السياسي أو الأمني الذي صار وراء هذه البلدان، في حين انه "امتياز" تنفرد به دول العالم الثالث.
قبل الحرب
في لبنان، كان حضور المصارف العالمية قبل العام 1975 مميزاً. ونجحت هذه المصارف في السيطرة على السوق المحلي، في حين كانت المصارف اللبنانية متواضعة في أحجامها وأسلوب عملها وطموحاتها.
ولم تكن السوق المحلية هي الهدف الأبرز للمصارف العالمية، بل السوق الاقليمية، وتحديداً أسواق دوَل البترو- دولار. وقد شكّل لبنان في تلك الحقبة منصّة أساسية للخروج الى أسواق الخليج، كما شكّل خزاناً مهماً للعملات الصعبة الناتجة من حقول النفط الخليجية.
هكذا ترافق الازدهار الاقتصادي المحلي مع الفورة النفطية في المنطقة. وعلى رغم أنّ المخاطر الأمنية كانت قائمة منذ منتصف الستينات، وكان من المعروف أنّ البلد معرّض للانفجار على خلفية الأزمة الفلسطينية، الّا أنّ حجم الأرباح، ورحابة السوقيَن المحلي والاقليمي، دفعتا المصارف العالمية الى الإفادة من هذا الوضع المُربح حتى اللحظات الأخيرة.
لكن عندما اندلعت شرارة الحرب عام 1975، وقال كثيرون انها مرحلة عابرة وسريعة، أدركت المصارف العالمية، بما لديها من خطوط تواصل مع مراكز القرار العالمية، انّ دور لبنان الإقليمي انتهى، وانه حان موعد الرحيل.
وهذا ما حصل فعلاً، باستثناء قِلّة من المصارف التي لم تبق بهدف تحقيق الأرباح، بل لأهداف سياسية، منها الابقاء على دورٍ ما للدوَل التي تمثّلها هذه المصارف في لبنان، والتي كانت تمتلك حكومات تلك الدول مساهمات كبرى فيها.
لكنّ خروج المصارف الأجنبية، وعلى رغم سلبياته المتعددة، إلّا انه ساهم في إعطاء فرصة ذهبية لكي تخرج المصارف اللبنانية بذكائها ومهنيتها العالية الى رحاب أوسع، الى السيطرة على السوق المحلية بحِرَفية زادت رسوخاً مع الوقت، من دون إنكار الدعم المقصود أو غير المقصود الذي تلقّته المصارف المحلية من السلطات الرسمية، من خلال سياسة رفع الفوائد الى مستويات قياسية، سمحت لتلك المصارف بتحويل عملية إقراض الدولة الى دجاجة تبيض ذهباً. وهكذا نَمت المصارف اللبنانية بسرعة قياسية غير مسبوقة.
ومع السياسة النقدية المميزة التي اتّبَعها مصرف لبنان، والتي وضعت حداً من حيث المبدأ، لمخاوف المودعين من احتمال خسارة أموالهم، انتقلَ القطاع المصرفي اللبناني الى مرحلة أكثر ثباتاً وقدرة على النمو والمنافسة.
وقد وصلت المصارف اللبنانية اليوم الى حقبة متطورة، بدأت معها التوسّع الخارجي، بعدما صارت الاسواق الاقليمية مفتوحة أمامها. ولولا "الثورات" التي اجتاحت المنطقة، لكانَ المشهد المصرفي اللبناني مختلفاً تماماً.
خلفيات الانسحاب
في عودة الى الإشكالية المطروحة حول انسحاب المصارف الأجنبية حالياً من السوق اللبنانية، يمكن طرح السؤال بصورة معاكسة: لماذا عادت في الأساس المصارف الأجنبية الى لبنان؟ واستطراداً، لماذا قررت لاحقاً إعادة التموضع والانسحاب؟
في قراءة سريعة لعناوين العودة، يمكن إدراج الأسباب التالية:
أولاً- سوق محليّ يسجّل نمواً كبيراً بدأ عام 2004 مع 7.5% سنوياً، تراجع الى 0.7% عام 2005 (عام اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري)، ثم ارتفع الى 1.4% عام 2006 (عام الحرب مع اسرائيل)، ثم بدأت مسيرة النمو: 8.4% عام 2007، و8.6% عام 2008، و9% عام 2009، و7% عام 2010، قبل أن تتراحع الى 1.5% عام 2011، ثم 1.55 % عام 2012، و2% عام 2013. هذا النمو بين العامين 2004 و2010 شكّل مساحة مميزة للعمل المصرفي.
ثانياً - سوق إقليميّ مشرقيّ مؤهّل للنمو السريع، وفي الطليعة سوريا، والتي كانت التقديرات تشير الى انها ستتحوّل الى سوق جاذب لكلّ أنواع الاستثمارات مع الانفتاح الاقتصادي الذي بدأ يتّبعه النظام قبل اندلاع الحرب أوائل العام 2011.
ثالثاً - حفاظ لبنان على مبدأ السرية المصرفية النسبية، والتي كان يمكن أن تساهم في استعادة دوره الاقليمي كخزّان ماليّ، ولو بصورة جزئية.
رابعاً - وضع المالية العامة التي شهدت تحسّناً سمح بالمحافظة على تصنيف ائتماني مقبول، مع قدرة على الاقتراض من الاسواق العالمية بأسعار لا تحصل عليها الدول التي تحمل التصنيف نفسه، بما شكّل مؤشراً ايجابياً على الميزة التفاضلية التي تمتّع بها لبنان.
هذه الأسباب، أو المميزات التي أعادت الى السوق المحليّ بعض المصارف العالمية، تلاشَت تِباعاً، ولم يبق منها سوى النذر الضئيل، مع الأخذ في الاعتبار انسداد الأفق الذي يسمح بالمراهنة على تغيير المشهد في وقت قريب.
ومع خفض التصنيف السيادي للبنان الى ( B-)، ارتفعت الكلفة على المصارف الأجنبية على اعتبار انّ المعايير الدولية الجديدة تفرض عليها حجز مؤونات إضافية لتغطية مخاطر التصنيف، كما أن هذه المصارف لم تدخل في "لعبة" شراء سندات خزينة، على غرار المصارف المحلية. وبالتالي، تلاشَت الاغراءات التي يمكن أن تشجّع المصارف الأجنبية على البقاء، ولم يعد أمامها سوى الانسحاب، وهذا ما يحصل اليوم.
ولعلّ أخطر ما في الموضوع، أنّ المصارف العالمية التي يُفترض انها ترى أبعد قليلاً من المشهد القائم، باتت مُقتنعة أيضاً بأنّ النفط في لبنان، والذي يمكن أن يشكّل حافزاً للبقاء في البلد، مؤجلٌ الى مواعيد بعيدة لا ينفع معها الانتظار وتحمُّل المخاطر والأضرار.
(انطوان فرح - الجمهورية)