بعد أكثر من تجربة غرامية فاشلة، غالباً ما يتّجه المرء إلى اختيار زواج العقل. فصحيح أنّ للحبّ والغرام واللهفة أهمية كبيرة في إطار بناء العلاقات الزوجية والوصول إلى الاستقرار العاطفي والعائلي، إلّا أنّ عيش بعضٍ الأشخاص انقلاب الحبّ الكبير إلى دراما وانتقام وقطيعة، قد يشعرهم أن تقدّم المصالح على الحبّ العميق واستعمال العقل في اختيار الشريك المناسب لهم قد يضمن استمرار العلاقة ويجعلها أكثر استقراراً.
ربّما يشكل الحبّ المرفَق بالانتقام أحد أبرز أسباب الخلافات بين المتحابين. فالحب يجعل المرأة والرجل أكثر حساسية، وأكثر توقاً لامتلاك حياة الآخر. وأيّ تصرّف متحرّر من قبل أحد الشريكين يُشعر الآخر بتمكّن حبيبه من التخلّي عنه ومن الفرح والاستمتاع بالحياة بدونه، ما قد يثير غيرته.
وقد تتكلّم المرأة أمام حبيبها مع أحد الشبّان وتضحك لنكاته، أو ترقص مع صديق في سهرة، أو تأخذ قراراً لا يحبّذه، ما قد يشعره أنه لا يسيطر على مشاعرها كفاية، فيغار ويحاول ردّ الصاع صاعين. ودخول الثنائي في هذه الحلقة المفرغة من النكايات يحوّل الحبّ بينهما إلى حال من عدم الاستقرار ويهدّد العلاقة بالانهيار في أيّ وقت.
حبّ وفشل
بعد أكثر من محاولة حبّ فاشلة يراهن فيها الرجل على مشاعره، ويستثمر أحلامه وطموحاته ووقته وماله وحياته في علاقة تقوده إلى «اللا شيء» وإلى الدمار العاطفي، يتّجه إلى اختيار امرأة رصينة تعبّر عن إعجابها به وعن رغبتها بالبقاء إلى جانبه. ربّما لا يبادلها الحبّ الكبير إنما يرضى بها على قاعدة أنها تريحه وتُشعره بالإطمئنان وتخفّف عليه وحدته بعد وصوله مع حبيبته إلى طريق مسدود.
يحاول أن يُلبس الفراغ العاطفي الذي في داخله تجاهها قناع الكلام المعسول. فيؤكّد لها أنها كلّ شيء بالنسبة له مراراً وتكراراً كي يغطّي برودة تصرّفاته.
تُغرم وترضى
ولا بدّ أن تشعر هذه المرأة بالفراغ العاطفي بسبب تصرّفاته وعدم تعبيره عن اهتمامه بشكل كافٍ، فهو مقتنع أنه غير مغروم، والغرام وحده يولّد اللهفة. إلّا أنّ غرامها به يجعلها تصبر وتحاول تحصيل المزيد.
ولكنّ أيّ خلاف ترسيه بهدف إيصال وجهة نظرها وكسب المزيد من اهتمامه يرتدّ عليها. فهو لا يغيّر من آدائه قيد أنملة إذ إنّ ما يقدّمه في إطار هذه العلاقة يتخطّى ما يخالجه من مشاعر.
يحاول إرساء علاقة يسودها العقل والمنطق وتحكمها راحته. أمّا هي، العاطفية الهائمة بحبه، فلا يبقى أمامها سوى إرضائه والانصات له والتأقلم على قاعدة هذا الموجود. فتعيش أسيرة واقعها وحبّها، وهو يتنعّم باهتمامها ورضوخها ويقدّم لها وجوده وبعض المديح مرفقاً بالبرودة.
يتمّ الزواج على قاعدة تحديده لشروطه وللطريقة التي تناسبه للاستمرار في هذه العلاقة. ويحدّد الارتباط الجدّي إن كان إقفال باب البيت الزوجي عليهما معاً يمكن أن يقلب زواج العقل إلى عاطفي أو إن كانت البرودة ستخيّم عليه أكثر فأكثر.
مستقبل الزواج بلا غرام
تؤكّد المعالجة النفسية الكندية لشؤون الأزواج سيلفيا تننباوم أنّ «الخطر في علاقة لا تحرّكها شرارة الحبّ والعشق أن يغرق أحد الطرفين في الضجر من الآخر ومن هذه العلاقة مع مرور الوقت، وأن يقرّر أن يذهب بحثاً عن خبرات عاطفية أخرى يحاول أن يملأ فيها الفراغ العاطفي الذي تتركه هذه العلاقة في نفسه».
ويتحدّث رامي، وهو مهندس في السابعة والثلاثين من العمر لـ»الجمهورية» عن لقائه بساميا وزواجه بها: «تعرّفت اليها من خلال أحد أصدقائي الذي سعى إلى جمعي بفتاة نبيلة، في حين كنت مدمَّراً بعد فشل علاقة دامت 5 سنوات»، ويوضح: «بعد أكثر من لقاء وجدت فيها شخصاً جيداً ورصيناً يسامر وحدتي ويحبّني ويهتمّ بي. لم أسمح لها أن تملي عليّ ما أفعله ولم أقدّم في سبيلها التضحيات الجسام، لكنها تفهّمت وضعي».
ويضيف: «فكّرت ملياً بدل الانجراف وراء عواطف لم توصلني يوماً إلى برّ الأمان، فأنا أشعر بالراحة معها وأملي شروطي لأنني غير منجرف وراء مشاعري، وليس هناك من مشكلات درامية في هذه العلاقة، كلّ شيء يتمّ الاتفاق عليه بطريقة هادئة وواعية وناضجة». ويؤكّد: «تزوّجنا وأنا أشعر بالرضى، لكن لا يمكنني أن أنكر أنّ الملل سيّد الموقف في هذه العلاقة».
رجل من ثلاثة يتزوّج امرأة لا يحبها
تشير دراسة أميركية إلى أنّ الرجال أكثر استعداداً للزواج من امرأة لا يحبّونها بعمق ولا يشعرون باللهفة تجاهها، فأخذ قرار الارتباط أسهل عليهم مقارنةً بالنساء اللواتي ينتظرن مَن يوقعهنّ في الحبّ.
31 في المئة من الرجال يؤكّدون جهوزيتهم للزواج من امرأة ليسوا مغرَمين بها، مقابل 23 في المئة من النساء. إذاً، أكثر من ربع الرجال على استعداد للارتباط على الورق بامرأة «جيّدة» تشعرهم بالراحة بدل انتظار الحبّ الكبير. فإن كانت المرأة تضمّ الصفات الحميدة التي تخوّلها أن تصبح زوجة صالحة وأمّاً حنون، غياب الحبّ المجنون والعشق ليسا عاملين أساسيّين يمنعان الرجل من التقرّب لطلب الزواج منها.
الزواج بلا حبّ مسألة راحة
تؤكّد الدكتورة بام سبور، الخبيرة في العلاقات العاطفية، أنّ هذه النتائج ليست مدهشة، إذ إنّ أولويات الرجال والنساء مختلفة. فالمهم بالنسبة للرجل هو الشعور بالإرتياح مع الشريكة، ما يسهّل عليه أخذ قرار الارتباط في حال توفّر هذا الشرط. فلا يجب أن نستخفّ بالأهمية التي يعيرها الرجل لراحته، وإن شعر بالراحة مع الشريكة قد تصبح جيدة ومناسبة في نظره.
الحبّ ضحية العقل والمصالح
من جهتها، تلفت المؤرِّخة والكاتبة الفرنسية «سابين ملكيور بونيه» مؤلفة كتابHistoire du mariage: entre raison et fortune, la place de l’amour إلى أنّ «زواج العقل» أو المصالح كان أكثر اعتماداً في العصور السابقة.
ويقوم على فكرة تدبير العائلة أو الأصدقاء عروساً لعريس من المستوى العلمي والمالي نفسه، وومن الطبقة الاجتماعية عينها. هذا التدبير لا يترك للرغبة وللمشاعر مكاناً بين الشريكين، لأنه يتمّ بطريقة عقلانية.
وانتظر العالم حتى نهاية القرن التاسع عشر حتّى تمكّنت الزيجات المبنيّة على الحبّ من غلب المبنية على العقل والمصالح وذلك بفضل صعود الحركات النسائية، التي أعطت أهمية للعواطف وللكلمة. ولكنّ زيجات العقل والمصالح ما زالت قائمة في عصرنا ولو أخذت طابعاً مختلفاً، حيث بات يتسنّى للرجل والمرأة أن يخرجا سوياً فترة طويلة دون الرضوخ لضغوط المجتمع، ليدرسا عقلية بعضهما وفرص نجاح هذا الزواج قبل الإقدام عليه.
وغالباً ما لا يكون زواج المصالح متوازياً منذ البداية إذ يُبنى على حبّ أحد الشريكين لدرجة عدم اكتراثه للسبب الذي يدفع الآخر للزواج به، بينما يهمل الآخر أهمية قوّة المشاعر فيرى في شريكه فرصة يجب عليه الاستفادة منها.
الجمهورية